غالبا كان يتوقع هذا من قبل ..شعر بدنو مكانته لا في قلوب الشعب ولكن في قلب الحاكم الذى لم يكن يحبه ابدا الا بمقدار حبه لنفسه وذاته وكرسيه الذى اخذه منحة من الشعب لا قهرا واغتصابا كسابقيه ..انها قصة الارادة الشعبية عندما تقرر وعندما تؤيد وعندما ترفع وعندما تخفض انها ارادة شعب مصر ..
في عام 1809 كان عمر مكرم قد وضع رجله علي ارض مدينة دمياط بالطبع لسنا في صدد التدخل في عقل الرجل في هذه اللحظة وهل كان يشعر بالمرارة ام ان هذه اللحظة مرت عليه كأى لحظة تمر علي زعيم فقد قيادته رغما عنه ؟ بالطبع لا نعلم ولكن نترك هذه اللحظة لخيالنا الخصب يقرر المشهد الذى يروق له ..
في هذا العام انتهت اسطورة عمر مكرم في قلوب الناس ليبدلها محمد علي الحاكم الداهية بمكانة الرهبة في قلوب المصريين ويبدأ نهضته التي تمخضت الي امبراطورية كانت من شواطىء الخليج العربي الي شواطىء الاناضول وكانت ملأ السمع والابصار ..
عمر مكرم هذه الشخصية التي تحمل من الكاريزما ما جعل المصريين يلتفتون اليه في حالك الظروف والايام والتفوا حوله من اجل مصير مصر المجهول وكان اول ظهور له علي الساحة في عام 1795 عندما كانت في مصر سلطة ظالمة تتحكم في البلاد والعباد بقيادة مراد بك وابراهيم بك وهم من بقايا المماليك الذين كانوا يتحكمون في مصر اثناء ضعف العثمانين اصحاب السيادة علي مصر في تلك الاثناء ..برز عمر مكرم في هذه الفترة كمناضل شعبي وكزعيم كما تنبغي ان تكون الزعامة ..
" لعله اتخذ من جده نبراسا له ،لعله اتخذ منه قدوة حسنة لعله حمل من بعض جيناته الوراثية ،لعل الدم الذى كان يحمله ممزوج بدم جده الحسن بن علي ،لعله كان ممزوجا بكرامة ال البيت وشهامتهم ، لعله وجد في سيرتهم ملتمسا ودربا الي النجاة الي الثورة الي الحرية التي كان يتوق اليها الشعب المصري المسكين "
..........
كان عمر مكرم نقيب الاشراف او زعيم ال البيت في مصر برز في احداث عام 1795 كما يوضح الجبرتي في حوادث هذه السنة ليهاجم سياسة مراد بك خاصة في رفع الضرائب عن كاهل المصريين الذين كانوا في فقر مدقع وكانوا لا يجدون رغيفهم ،كانت الحالة الاقتصادية سيئة لدرجة لا يتخيلها البعض منا الان ..
التمس المصريون الدرب مع عمر مكرم والتفت جموع الشعب وتظاهرت لايام لرفع هذه الضرائب واستطاع بالفعل في تخفيض هذه الضرائب ومن هذا الحين اصبح هو الزعيم والوسيط بين الحكام الطغاة والشعب المغلوب علي امره ..
............
" جاءت الطامة ..الغوث الغوث ..يالله انقذنا من هول الجحيم ..يارسول الله انقذنا ..انها القيامة جاءت بجحيمها جاءت بعذابها ..ملائكة العذاب تأتي لتنتقم منا بسبب ذنوبنا ..وا حسرتاه ..الغوث الغوث ..النجاة النجاة ..الهروب الهروب ..ليس لها من دون الله كاشفة ..انها الطامة "
...................
انها الحملة الفرنسية ولا احد سواها ..هي قيامة المصريين الحقيقية ..بالطبع هي احتلال ولا شك في ذلك ولكنها كانت من اعظم التجارب التي مرت علي مصر مثلت الصدمة الحضارية التي لا شك فيها في افاقة المصريين ووعيهم في شتي المجالات خاصة المجال السياسي والوعي القومي الذى تبين في اقل من 4 سنوات بعد جلاء الفرنسيين عن مصر وكان الحصان الاسود وفارسه المغوار هو عمر مكرم ذاته ..
في الكتب المدرسية كنا ندرس ان الحملة الفرنسية التي استمرت من عام 1798 الي 1801 كانت نار ونور علي المصريين ..اسمحوا لي ان ابدى دهشتي من هذه المقوله كيف يكون للاحتلال في اي مكان في العالم ان يكون نار ونور في نفس الوقت الا اذا اعتبرنا ان الاحتلال الامريكي للعراق الان هو قمة الحضارة وان العلوم الامريكية الحديثة اثرت في العراقيين للدرجة التي نسمع فيها ان عراقي كان من ضمن الباحثين عن مياة القمر مثلا او اختراع عراقي عن وقود الصواريخ او الليزر ان كل هذا هراء وحماقة لا حدود لها ،اذن فالحملة الفرنسية كانت تجربة تاريخية بالطبع اثرت في المصريين انها صدمتهم حضاريا وجعلتهم ينظرون ان هناك شىء اسمه الحضارة الحديثة وانهم تأخروا كثيرا عن ركب قطارها ،وبذلك نفهم ان التجربة التاريخية كان لها مميزات ولها سلبيات ،واظن ان سلبيتها كانت تتضح في جراح المصريين والامهم وايجابيتها في انطلاق المصريين نحو الوعي السياسي والحضارى ..
اقول ان عمر مكرم كان فارس هذه المرحلة التي عقبت الحملة الفرنسية في مصر ولكن الحقيقة انه كان جزء من الكل ،لان المصريين انفسهم كانوا هم الرهان الاكبر ايام الاحتلال ،المصريون الذين تحدوا الاحتلال بعدما كانوا في غطيط طويل في الفترة الاخيرة التي سبقت الحملة الفرنسية ،ولكنهم افاقوا مع اول مشهد عند ارتفاع العلم الفرنسي علي قلعة القاهرة ،نجد المقاومة للمحتل في اروع ما يكون ،افاق الشعب علي بارود الفرنسيين وعلي بنادقهم وبدأت الثورة تضطرم في نفوسهم ..
ثورة القاهرة الاولي التي قتل فيها "ديبوى "حاكم القاهرة الفرنسي وقتل فيها 200 من الفرنسيين ودك فيها حي الازهر الذى كان مركز الثورة ودخول الجنود الفرنسيين الي الجامع الازهر بخيولهم وتمزيقهم للمصاحف وتدنيس الجامع في مشهد ملفت لاهانة المصريين ودينهم وهذا كان الخط الاحمر بالنسبة لهذا الشعب علي مدار التاريخ منذ ايام الفراعنة.. كل هذه كانت مظاهر لافاقة المصريين ..
"دمياط ،الاسكندرية ، الصعيد بكل مناطقه ،رشيد ،كل هذه المناطق تجد فيها الشباب مسلح بقوة السلاح ضد الجنود يقتلون ويأسرون في مشهد رائع لم تكن لتدركه الا في هذه الحالة سأترك لخيالك الخصب ان يدركه .........................................
وتاتي الثورة التي تزعمها عمر مكرم وكانت تجربة رائعة لما جاء بعد ذلك التاريخ بخمس سنوات ..كانت الثورة الثانية التي قامت بها القاهرة في 1800 اكثر تنظيما وتسليحا وتدريبا وبالرغم انها فشلت في النهاية ولكنها نجحت في القضاء علي غطرسة الفرنسيين وتعجرفهم وقتل بعد اخمادها بشهرين "كليبر " الذى قتل علي يد "سليمان الحلبي "
في رسالة واضحة وصريحة للفرنسيين "ان المصريين لا يطيقونكم علي هذه الارض "..
تترك الحملة الفرنسية مصر مثكلة بالجراح ،في نفس السنة التي تستقل مصر عن فرنسا عام 1801 يدخل مصر واحد من اشهر الشخصيات التي ستؤثر في تاريخ مصر الي عام 1952 الا وهو "محمد علي " الذى حضر الي مصر مع الحملة العثمانية التي تولت حماية مصر بعد الحملة ....
نفس المشهد الذى تحتفل الزعامة الشعبية بقيادة عمر مكرم بالنصر كان محمد علي يلتمس لنفسه دورا في المسرحية المقامة علي ارض مصر ،شاب له طموح لا حدود له ،يمتلك ذكاء نادر لا مثيل له ، يدرك بحسه السياسي العظيم ان بداية الطريق من هذه الزعامة الشعبية المحبوبة في ارجاء مصر وقد كان ..
(اظن ان مصر الان اصبح فيها زعامة شعبية مكونة من عمر مكرم وشيوخ الازهر الذين قادوا المصريين للتحرر )
المشهد المصرى الان :
الزعامة الشعبية
المماليك الذين رجعوا الي المشهد بقوة بعد مغادرة الحملة
العثمانيون اصحاب الشرعية والذين بعثوا بولاة ليحكموا مصر بنفس العقلية التي كانت تتحكم في مصر قبل الحملة ..
انها تشابك المصالح اذن ..
- المماليك الذين عاشوا بين ظهرانيي المصريين لقرون كانوا لهم من الخبرة ليتحكموا في المصريين ويتعرفون علي عقلية هذا الشعب وكيف يفكر ؟ ولكن نظرة الشعب المصري تغيرت كثيرا الي المماليك وكان هذا الفرق ..
- اما عن العثمانيين اصحاب الشرعية التي تتمثل في السلطان العثماني الذى هو في العقل الجمعي المصرى بالخليفة حامي حمي الاسلام ، لكنهم مع ذلك وضعوا حدود بينهم وبين الدولة وكان لسان حالهم نحن معك ايها الخليفة ومع شرعيتك الي النهاية لكن كرامتنا قبل كل شىء وقد كان ذلك جليا الي اقصي الحدود ..
- الزعامة الشعبية التي تتمثل في عمر مكرم ورفاقه الاجلاء الذين اكدوا للشعب ان هناك وكلان يتحدثون عن الامهم ويعبرون عن احلامهم ويتوسطون عند حكامهم وقد كان ايضا ..
الدولة العثمانية تبعث بولاة ليسوا علي قدر المسئولية ،تشابك هذا في نفس المشهد بالافاقة المصرية في هذه السنوات ،
اعتاد المصريون ايام الاحتلال ان هناك الديوان الوطني الذى انخرط فيه المصريون كاول تجربة ادارية مصرية خالصة برئاسة فرنسية وبذلك تمثل الوعي المصرى في ادارة انفسهم وحكم مقدراتهم ،اذن يصطدمون مع ولاة ظلمة تقليديين يعاملونهم بظلم لا حدود له ، يبدأ المصريون في الثورة مرة اخرى لا علي الخليفة ولكن علي الولاة وهناك فرق شاسع
يتبين في التحليل السابق اعلاه،يتشابك هذا مع المماليك الذين يحاولون استعادة نفوذهم بلا جدوى وفائدة ،مع مشهد اخر يتحرك فيه ظابط كبير في الحامية العثمانية وكان هذا الظابط اسمه محمد علي صفته ظابط عمله التحرك في الخفاء لاظهار نفسه بمظهر المحب لهذه الفئة التي تقود الشعب وهي الزعامة الشعبية .....
يتولي" خورشيد باشا " ولاية مصر بعدما كان محافظا للاسكندرية وكان مزية خورشيد في هذه الفترة انه كان الاقدر علي كباح طموح محمد علي حيث كان خورشيد يفهم ما يدور في خلد محمد علي جيدا وكان يريد ابعاده ،اما عن الزعامة الشعبية بقيادة عمر مكرم تبحث بدور لها علي الساحة السياسية لا بتولي الحكم لكن بدور الوسيط والرقيب علي الحاكم وفقط ..
وعلينا ان نحلل هذه "الفقط " وذلك لان عمر مكرم وشيوخ الازهر كانوا في النهاية رجال فقهاء لا يقدرون علي تولي الحكم كما انهم كانوا يحترمون الخليفة لكن في نفس الوقت ارتضوا لانفسهم ان يكونوا الرقيب الفعلي لهذا الشعب والمتحدث الرسمي بنفسه وهذا تجلي بالقيام بالثورات في السنوات السابقة والاتية ايضا الي تولي محمد علي ..اذن فقط تعني ان عمر مكرم ورفاقه لا يطمحون الي الحكم وفي نفس الوقت يشكلون المعارضة القوية لاى حاكم وهذا ما ادركه محمد علي منذ توليه وعمل علي تصفيتهم فيما بعد ..
خورشيد القوى يتولي الحكم ويستمر في ظلم المصريين، المعارضة تتحرك لا يقافه وعزله عن الولاية ويقرر عمر مكرم في مظهر جلي علي مدى الوعي السياسي الذى بلغ الذروة وجمعه بنظريات الحكم في السلام وهذا ماعبر عنه د/عبد العزيز الشناوى في كتابه "عمر مكرم " في قوله :
"والحق ان الوجدان الديني والفكر السياسي كانا يتلاحمان ،بعضهما مع بعض في نفس الزعيم عمر مكرم ،فهو يردد نظرية اسلامية مهمة هي حق الشعب في عزل حاكمه اذا اساء الحكم ،وهو يصر علي نقل هذه النظرية الي مجال التطبيق العملي ،وكان ترديد هذه النظرية والاصرار علي تطبيقها في ذلك الوقت المبكر من القرن التاسع عشر ظاهرتين مهمتين في تاريخ الفكر السياسي في مصر "
استمر عمر مكرم في معارضته الشديدة ضد خورشيد ممثل الخليفة نفسه واستمرت الثورة 4 شهور اضطر فيها المصريين الي حمل السلاح ضد قوات خورشيد وسقط شهداء في هذه المعارك وكان المصريون يتحملون هذه اللام لرفع الظلم والثورة عليه والوصول الي كرامتهم المسلوبة وكان عمر مكرم يتزعم هذا اما محمد علي الذى تولي في هذه الاثناء اي اثناء هذه الثورة في 13 مايو 1805 وقف موقف الحياد ولم يساعد المصريين في ثورتهم ..وما يهمنا ان محمد علي تولي بشروط المعارضة والزعامة الشعبية الا يقرر امرا الا بمشورة هذه الزعامة وهذا قمة الوعي الذى وصلت اليه فكر هذه الزعامة التي كانت بحق لسان الحق المبين ضد الظلم ..
محمد علي يحكم بارادة الشعب التي اجبرت الادارة العظمي في الدولة العثمانية الي الرضوخ وعزلت خورشيد واستمرت الزعامة في دورها في رقابة محمد علي نفسه الذى ضاق ذرعا واستخدم سياسة فرق تسد بين الزعامة حتي فتتها ولم يقف الا في وجهه عمر مكرم الذى نفاه الي دمياط في 1809 ....
"اظن ان عمر مكرم عندما دخل دمياط في هذه السنة وهو ينظر الي شوارعها ولسان حاله يردد "كم انت يادمياط قاسية علي عندما كان الفرنسيون في مصر نفوني اليكي وها انا اوفي بعهدك بي ولم اخب ظنك وجئتك الان منفيا ايضا "
هذه كانت قصة عمر مكرم الذي لا يعرف عنه الكثير من المصريين الا مسجده الكائن في القاهرة الذى لا يكاد يخلو شهر الا وفيه عزاء يجتمع فيه مجموعة من الافاقين ....